المادة    
المسألة الرابعة: هي من جهة الوجوب المفصل أو المجمل، فقد يظن البعض أن فيها تكراراً لما تقدم، وهذه في الحقيقة ليس فيها تكراراً، وإن كان قد يشتبه الأمر في ذلك؛ لأنه في الفقرة السابقة قبل الأخيرة -وهي ما يتعلق بزيادة الإيمان إجمالاً وتفصيلاً- كان يتكلم عن وجوب الإيمان من جهة الأمة عموماً، أو من جهة الفرد، وهنا يتكلم من زاوية أخرى، وهي من جهة الفرد الذي يجب عليه ما لا يجب على غيره، لا من جهة أن الفرد قد يبلغه ما لا يبلغ غيره، فهنا يقول: شخصٌ بلغه الحج وأن الله تعالى قد شرع الحج، لكن يقول: (وأيضاً: فمن وجب عليه الحج والزكاة مثلاً، يجب عليه من الإيمان أن يعلم ما أمر به، ويؤمن بأن الله أوجب عليه ما لا يجب على غيره إلا مجملاً، وهذا يجب عليه في الإيمان المفصل) أي: من أراد الحج وهو من أهل الاستطاعة فإنه يجب عليه أن يعلم ما لا يعلمه الذي لم يوجب الله تعالى عليه الحج، فيجب عليه من جهة أنه مؤمن، لكن في واقع حاله لا يستطيع الحج، وبالتالي فلا يجب عليه، فهو مؤمن بإيجاب ذلك، مؤمن بأن الحج ركن من أركان الإسلام، وأن هذا لو كان يستطيع الزاد والراحلة لفعل ذلك، ففي قلبه حصل الإيمان عملياً، والوجوب ساقط عنه؛ لأنه لا يجد الزاد والراحلة، لكن الذي يجد ذلك يجب عليه ما لا يجب على الآخر، بأن يتعلم كيفية الإحرام وأركان الحج وشروطه الحج وواجباته.. إلخ، فيزداد عنده الإيمان بالحج أكثر مما عند ذلك من حيث الوجوب، وإلا فقد يتعلم الأحكام من لا يستطيع ذلك، وهذا أمر آخر، نحن لكن نتكلم عن الإنسان الذي يستطيع العمل، فيجب عليه أن يعلم ليعمل وفق العلم، وإلا كان والعياذ بالله من الضالين الذي يعبدون الله على جهل، إذاً الذي لا يجد الزاد والراحلة لا يجب عليه أن يعرف الأحكام والتفصيلات؛ لأنه لم يحج من حيث الوجوب، وليس الكلام عن العلماء أو طلاب العلم أو المفتين، إنما عن العامي من المسلمين الذي ليس لديه الاستطاعة، كما لا يجب عليه مثلاً أن يعرف تفصيل أحكام زكاة الذهب، وهو لا يجد شيئاً من الذهب أو أحكام زكاة بهيمة الأنعام وهو ليس من أهل الرعي وهكذا، وإنما المقصود في ذلك أن الإنسان عندما يتعلم ويعرف تفصيل ما أمر الله تبارك وتعالى به؛ فإنه يكون لديه أكثر مما عند الآخر، ويكون آمن بأكثر مما آمن به ذلك، وهذا يجب عليه هذا العلم؛ لأنه يريد أن يعمل، وذاك لا يجب عليه لأنه غير مطالب بالعمل، فإذاً يحصل التفاوت بين الناس في هذه الحالة، فحصل عند هذا ما ليس عند ذاك، وهذا دليل على أن دعوة التماثل وعدم التفاوت ليست صحيحة كما يزعم أولئك الزاعمون، فإذاً هذا يجب عليه الإيمان المفصل وذاك يجب عليه الإيمان المجمل، ثم لو تأملنا لوجدنا أن هذا العاجز عن الحج قد يكون مستطيعاً لقراءة القرآن وحفظه وتعليمه، فيجب عليه تفصيل ذلك، أي: أن يكون ملماً بأحكام التجويد والتلاوة وأحكام الإمامة مثلاً، بينما الآخر لا يجيد هذا الفن أو هذا العلم؛ لأنه ليس من أهله، وإنما وجب عليه ما يتعلق بالحج، فيكون هذا قد أخذ بشعبة وذاك قد أخذ بشعبة وهكذا، إذاً لا بد من الإقرار بتفاوت الناس وتفاضلهم وتنوعهم في حقيقة الإيمان، والقول بأن الإيمان شيء واحد، وأن الناس فيه سواء بإطلاق ينافي مقتضى هذه الأدلة الواضحة الجلية.
يقول الشيخ رحمه الله: (وكذلك الرجل أول ما يسلم إنما يجب عليه الإقرار المجمل، ثم إذا جاء وقت الصلاة كان عليه أن يؤمن بوجوبها ويؤديها، فلم يتساوى الناس فيما أمروا به من الإيمان) أي: لا يمكن أن يتساوى من أسلم في هذه اللحظة، ومن هو مسلم من قبل، ويعرف دين الله تبارك وتعالى وأحكامه فيما يجب عليه وما يطالب به، فالذي أسلم حديثاً يجب عليه في أول الأمر الإيمان المجمل، وهذه سنة الله، إذ نحن لا نستطيع أن ندخل في قلبه الإيمان مفصلاً كاملاً، إنما لا بد من التدرج معه، والواقع الآن أن أكثر من يدخل في الإسلام ليس من العرب، وهؤلاء أصلاً يصعب عليهم أن يعرفوا كثيراً من الأمور إلا عن طريق الترجمة، والترجمة لا تكون إلا في أمور محدودة، فالعربي إذا أسلم يستطيع أن يحفظ الفاتحة مثلاً في ساعة أو نصف ساعة أو أقل من ذلك حسب المقدرة، وعند ذلك يصلي بها، لكن الذي أسلم حديثاً وهو من الهند أو أمريكا أو اليابان ، لا يمكن أن يتعامل معه إلا بحسب واقعه، إذاً أولاً يلزمه أن يؤمن بالله ويقر بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم إيماناً مجملاً، ثم إذا جاء وقت الصلاة يقال له: الصلوات كذا وكذا، ويجب عليك أن تؤمن وتصلي، فيصلي بعد أن يغتسل ويتوضأ، لكن كيف يصلي هذا؟ وكم يفهم من الصلاة؟
إن أكثر ما يؤديه الحركات الظاهرة وراء الإمام، ولا يلزم بشيء غير ذلك؛ لأنه لا يستطيع إلى شيء غير ذلك، وبعد ذلك يحفظ بعض الفاتحة مثلاً ليصلي بها، ثم إذا أتقن الفاتحة صلى بها، وبعد ذلك إذا حفظ سورة صلى بها وهكذا، فهو لا يطالب إلا بقدر ما يستطيع، وبحسب ما بلغه وما مكنه الله سبحانه وتعالى منه لأداء هذه الفريضة، فريضةً فريضةً، ثم تأتي الأمور الأخرى تبعاً، كالكلام في علاقاته الزوجية والأسرية وأحكامه المالية وغير ذلك، مع أنه ربما يكون حتى تلك اللحظة ما يزال متعلقاً بالخمر، وما يزال يظن أن الزنا لا بأس به مثلاً مع الرضى؛ لأن بعضهم قد يقول: الزنى الحرام هو الاغتصاب، لكن مع الرضى لا شيء فيه مثلاً، فالناس أحوالهم وأمورهم عجيبة، وهكذا يتدرج معه في كل مرة ليتعلم من أحكام الدين ويزداد في إيمانه، حتى يستيقن، إذاً من كان حاله هكذا أولاً هو يزداد شيئاً فشيئاً، ثم هو في المرحلة الأولى ليس كمن يعلم الكثير، ويقيم الكثير من أحكام الإسلام والدين، فيجب على هذا ما لا يجب على ذاك، وهذا أيضاً دليل على التفاوت في الوجوب، وفيما افترض الله تبارك وتعالى، وفي العمل، لكن هذا لا يقتضي التفاوت في الأجر، وهنا نكون قد رجعنا إلى الحالة الأولى التي ذكرناها من أنه قد يؤجر هذا الذي أسلم حديثاً على قراءة الفاتحة وهو يتعتع فيها ولا يستطيع أن يقيم حروفها، أعظم من أجر ذلك المتقن البارع المجود الذي يقرأها بحسب عمل القلب؛ لأن هذا لا يجب عليه الآن إلا هذا، وقد قام بأقصى ما يجب عليه، وبالتالي فيأخذ أقصى ما يثيب الله تبارك وتعالى به العباد على مثل هذا العمل، فلننظر إلى عدل الله تبارك وتعالى وفضله ورحمته، وإلى موافقة عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان للفطر السليمة، وللعقول القويمة، ولأحوال الناس التي لا يشك فيها عاقل، ومجافاة ومخالفة ومجانبة عقيدة من خالفهم من أهل الكلام أو الفرق الضالة لهذه الحقائق الواقعية البدهية فوق مجانبتها ومخالفتها لنصوص الوحي الكتاب والسنة، ولا شك أن من خالف الوحي، وخالف ما جاء في الكتاب والسنة، سيخالف العقل والواقع والفطرة، ولا شك أن مذهب أهل السنة والجماعة موافق للعقل وللفطرة وللواقع المشاهد؛ لأنه مأخوذ عن الوحي الذي لا يقع فيه الخطأ ولا الضلال ولا النقص ولا التقصير بأي حال من الأحوال.